الخليفة عمر وتأثير
اليهود في دولة الخلافة !
تقدم ذكر المكانة التي نالها
كعب الاحبار عند الخليفة الثاني عمر , فقد جعل الخليفة لكعب الاحبار منبرا في مسجد
النبي (ص) كي يقص على المسلمين حكاياته وأحاديثه التوراتية. ومثل ذلك أيضا حصل
للراهب النصراني تميم الداري الذي نال مكانة عند عمر فكان أول القصاصين, ويروي ابن
الاثير في تميم فيقول (وكان أول من قص, استأذن عمر بن الخطاب في ذلك فأذن له)( اسد الغابة ج1 ص 395) . لم يكن عمر يقبل بوعظ
وقص لباقي الصحابة , لكنه سمح لكعب ولتميم ما لم يسمحه لغيرهما. التفكر في هذه
المسألة يقودنا الى تساؤل لايمكن تغافله ! لماذا هذا الاحترام من عمر لحبر يهودي
دخل الاسلام بعد وفاة النبي (ص) بعشر سنين ؟ أن مراجعة سيرة عمر قبل الرسالة وبعدها
سيبين سبب هذا التبجيل للحبر كعب , وسيأتي
تفصيل ذلك.
كذلك لم يترك عمر اليهود الذين أسلموا بل
قربهم وهيأ لهم مناصب مهمة, فمنهم محمد بن مسلمة -الذي مرت ترجمته - حيث جعله عمر
صاحب العمال في عهده فصار محمد بن مسلمة مستشار عمر في أمور الولاة على البلاد
يراقبهم ويتحرى أخبارهم. ذكر ابن الاثير في محمد بن مسلمة (كان صاحب العمال أيام
عمر ,كان عمر إذا شكي إليه عامل أرسل محمدا يكشف الحال وهو الذي أرسله عمر إلى
عماله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به)( اسد الغابة لابن الاثير ج5 ص 114) . فعل عمر مثل ذلك مع زيد بن
ثابت الذي مرت ترجمته أيضا , فجعله عمر من المقربين له وولاه أشرف المناصب
وهو قضاء الدولة كلها ,وكان يستخلفه على المسلمين حين يخرج في مهمة , لنكرر قراءة
المصادر:
(
كان عمر كثيرًا ما يستخلف زيد بن ثابت
إِذا خرج إِلى شيء من الأَسفار، وقلما رجع من سفر إِلا أَقطع زيدًا حديقةً من نخل.
).( تاريخ المدينة المنورة لابن شبة, ص162)
( ما كان عمر وعثمان يقدمان أحدا في الفرائض ,
والفتوى, والقراءة, والقضاء. وقال خارجة بن زيد بن ثابت : كان عمر يستخلف أبي ,
فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل) (سير اعلام النبلاء للذهبي). وروى ابن سعد : (
كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة ).(و خطب عمر بن الخطاب بالجابية فقال من كان يريد أن يسأل عن
الفرائض فليأت زيد بن ثابت) (واستعمل عمر بن الخطاب
زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا) (و كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر أو قال سفر يسافره وكان يفرق الناس في
البلدان ويوجهه في الأمور المهمة
ويطلب إليه الرجال)( طبقات الصحابة , لابن سعد).
أن
تقريب اصحاب الاصل اليهودي مثل زيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وتفضيل كعب الاحبار والقسيس تميم الداري على باقي
المسلمين يوحي لكل ذي عقل بما كان يخطط له عمر وما كان يسعى اليه. لقد كان ميل عمر
الى اليهودية واضحا في جاهليته وهو ماسيتبين بعد قليل, وبعد أسلامه بقي عمر على
ولائه وميله لليهود وهذا يفسر تقريبه لهم وجعلهم من حاشيته.
إن
معرفة ميول عمر قبل الاسلام تزيدنا معرفة به, لذا من الضروري سرد شئ من مواقفه قبل
الاسلام ومواقفه بعد اسلامه تجاه اليهود وتجاه كتبهم وثقافتهم. يروي عمر على لسانه
قصة اسلامه عندما ذهب الى بيت أخته وزوجها الذين دخلا الاسلام آنذاك (راجع فصل
عمر) . كان عمر يهدد ويتوعد وهو في طريقه لبيت أخته كما بينت الرواية فهو لم يزل
مشركا وكان نيته تأديب أخته وزوجها لارجاعهما الى دين قريش , وكان حازما كذلك على
قتل النبي محمد(ص) كما تروي الرواية. تقول
الرواية أنه كان في طريقه لبيت أخته فيخبره رجل بأن الاولى به أن يقوم أهله
وعائلته لأن أخته وزوجها قد اسلما ,فيسأل عمر مستفسرا هل حقا اخته وختنه من
المسلمين فيؤكد الرجل ذلك ويقول:
(أختك وختنك! قال (عمر) :فانطلقت فوجدت الباب مغلقا وسمعت همهمة قال ففتح لي الباب فدخلت فقلت ما هذا الذي أسمع عندكم؟ قالوا ما سمعت شيئا فما زال الكلام بيني وبينهم حتى أخذت برأس ختني فضربته ضربا فأدميته, فقامت إلي أختي فأخذت برأسي فقالت قد كان ذلك على رغم أنفك قال فاستحييت حين رأيت الدماء, فجلست وقلت أروني هذا الكتاب فقالت أختي إنه لا يمسه إلا المطهرون فإن كنت صادقا فقم فاغتسل, قال فقمت فاغتسلت وجئت فجلست فأخرجوا لي صحيفة فيها بسم الله الرحمن الرحيم قلت أسماء طاهرة طيبة " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى. قال: قلت بهذا جاء موسى
( الله لا إله
إلا هو له الأسماء
الحسنى) فتعظمت
في صدري, وقلت
من هذا فرت قريش!
ثم شرح الله صدري
للإسلام فقلت
( الله لا إله
إلا هو له الأسماء
الحسنى) ( تاريخ دمشق لابن عساكر ج44 ص 30, ونحوه في طبقات ابن سعد ج3 ص191, اسد
الغابة لابن الاثير ج 4 ص162)
تأمل
قوله : قلت بهذا جاء موسى! فمن أين لعربي
من قريش معرفة ماذا جاء به موسى وعرب قريش يعبدون الاصنام وأغلبهم أميون لايقرأون
ولايكتبون ؟ إن عمرا كان له علم بدين اليهود قبل رسالة النبي (ص) وروايته يؤتنس
بها على حقيقة ذلك. يضيف عمر في نهاية الرواية أن المسلمين أطلقوا عليه بعد أسلامه
لقب الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل بأسلامه ذلك اليوم ! فبعد أسلامه كما يروي
على لسانه صارت الدعوة الى الدين علنية,
وفرح المسلمون بأنضمام عمر اليهم, وقد مر تفنيد الرواية في فصل ( الخليفة عمر),
كما تقدم أيضا في فصل ( الامام علي ) ادعاء عمر لقب الفاروق لنفسه , وسيتبين تهافت
هذا الادعاء في الاسطر القادمة.
لم يترك عمر فضوله ورغبته في تعلم اليهودية حتى بعد اسلامه
وعلى الرغم من تحذير النبي للمسلمين بعدم قراءة كتب أهل الكتاب, تجد عمر لا يأبه
لتلك الاوامر, بل ظل على ديدنه في تعلم
التوراة والتقرب الى اليهود وهو دليل آخر على تطبع عمر مع اليهود قبل الاسلام
وبعده.
من
المعلوم أن اليهود لايقبلوا دخول الغريب في مدارسهم ولايقبلوا الا المنتمي لدينهم,
ولكن النص الاتي يبين أن هذه القاعدة لاتنطبق على عمر ,فعمر بعد أسلامه كان من
التلاميذ المجتهدين على حضور دروس اليهودية في معابد اليهود كما يروي على لسانه :
( كنت أغشى اليهود يوم دراستهم , فقالوا مامن أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك
تأتينا!)(كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص353) . هذا النص يبين مواظبة عمر على زيارة
اليهود في يوم دراستهم . ومن الطريف أن عمر يستدرك مايقوله ليكمل قائلا في نفس
النص أنه كان يحضر دروسهم محاولا هدايتهم الى الدين الجديد. لنكمل قراءة الرواية
لنرى أعجوبة من أعاجيب أحاديث عمر حيث يروي أن النبي مر عليه وهو يكلم اليهود :
(فمر
النبي (ص)وأنا أكلمهم يوماً ، فقلت أنشدكم بالله وما تقرؤون من كتابه أتعلمون أنه
رسول الله ؟ قالوا : نعم فقلت : هلكتم والله ، تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه
؟! فقالوا لم نهلك ولكن سألناه من يأتيه بنبوته ؟ فقال : عدونا جبريل لأنه ينزل
بالغلظة والشدة والحرب والهلاك ونحو هذا ، فقلت : ومن سلمكم من الملائكة ؟ فقالوا
: ميكائيل ، ينزل بالقطر والرحمة وكذا ، قلت وكيف منزلتهما من ربهما ؟ قالوا :
أحدهما عن يمينه ، والآخر من الجانب الآخر . فقلت إنه لا يحل لجبريل أن يعادي
ميكائيل ولا يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن
سالموا وحرب لمن حاربوا. ثم أتيت النبي ، وأنا أريد أن أخبره ، فلما لقيته قال :
ألا أخبرك بآيات أنزلت علي ؟ فقلت : بلى يا رسول الله فقرأ ( من كان عدواً لجبريل
.. حتى بلغ ( الكافرين ) قلت يا رسول الله والله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لا
خبرك بما قالوا لي وقلت لهم ، فوجدت الله قد سبقني)( نص الرواية من كنز العمال وهي
تكملة من النص السابق ). في الرواية اعلاه
يبدوا جليا تأليف عمر للقصة , فاذا مر
النبي على عمر وهو يحدث اليهود فما بال عمر بعد دقائق يأتي الى النبي ليخبره بما حصل؟ أليس النبي واقفا
هناك مع عمر ومع اليهود ويسمع الحديث من الطرفين . لكن عمرا يخطأ في حساباته فينسى أنه قال (مر النبي علينا )فيستأنف ليقول
أنه ذهب الى النبي ليخبره بما حصل وكأن النبي لم يكن حاضراً, وليس كذلك أنما يضيف
نعمة لنفسه وهي أن الله أنزل قرآنا في تلك الحادثة بسببه.. لقد أراد عمر أن يبدي
للناس أن النبي لم يعارضه على تواجده مع اليهود وحضوره في دروسهم ,لكن الرواية
فضحت نفسها بنفسها . إن تعلق عمر بدراسة
التوراة يستهويه الى درجة أنه يسأل النبي (ص) عن ذلك : ( سألت رسول الله عن تعلم التوراة
, فقال لي لاتتعلمها وتعلموا ما أنزل عليكم وآمنوا به ) ( كنز العمال ج1 ص 372).
لكن عمر لايأبه لنصيحة النبي فيمضي في زيارة اليهود وحضور دروسهم ويعيد السؤال مرة
آخرى ويبين أن التوراة قد أخذت بمجامع قلبه , فيقول أنه سأل النبي : ( يارسول الله أن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث
قد اخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها ! فقال النبي (ص) له : أمتهوكون أنتم كما
تهوكت اليهود والنصارى , أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية) (
الدر المنثو للسيوطي ج 5 ص 148) ,وكلمة متهوكون تعني متهورون. وهناك رواية آخرى
يرويها الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري تبين أن عمر نسخ صحفاُ من كتب اليهود
وأتى بما نسخ الى المسلمين ! قال جابر بن عبد الله أن عمر أتى بكتاب أصابه من اهل الكتاب فقرأه,
فغضب النبي (ص) وقال لعمر : (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب) ( مسند أحمد ج3 ص387) ,
ومثله : (عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي (ص) بكتاب أصابه من بعض أهل
الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال (ص) :
أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا
تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو
أن موسى كان فيكم حيا ما وسعه إلا أن تبعني) ( مجمع الزوائد للهيثمي ج 1 ص 420)
(وعن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله فقال :
يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها
عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله (ص) قال عبد الله - يعني ابن ثابت - : فقلت :
ألا ترى ما بوجه رسول الله ؟ فقال عمر :
رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال : فسري عن رسول الله , قال (ص) :
والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم أنتم حظي من
الأمم وأنا حظكم من النبيين) ( مجمع الزوائد للهيثمي ج 1 ص 420).
(وعن أبي الدرداء قال : جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول
الله (ص) فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق فتغير
وجه رسول الله فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان : أمسخ الله عقلك ألا ترى
الذي بوجه رسول الله ؟ فقال عمر : رضينا
بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فسري عن رسول الله ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين
أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا ,أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من
النبيين)( مجمع الزوائد للهيثمي ج1 ص 421 ). تأمل جملة ( جوامع من التوراة) , فالذي يعرف ويكتب جوامع من التوراة لابد أن
يكون عالما بالتوراة في ذلك العهد وعمر من أولئك.
لقد كان عمر مصراً
على تعلم كتب اليهود على الرغم من وصايا النبي, فيقول عمر في رواية أخرى أنه انتسخ
كتابا من كتب اليهود وأتى به النبي (ص) وكما يلي : ( قال عمر أنطلقت أنا فاستنسخت
كتاباً من أهل الكتاب ثم جئت به النبي محمد (ص). فقال النبي : ماهذا الذي في يدك
ياعمر ؟ قال : قلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب رسول
الله حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة
جامعة فقالت الأنصار : أغضب نبيكم ؟
السلاح السلاح ! فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله فقال الرسول (ص) : ( يا أيها الناس إني قد
أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا
تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون ) ( المتهوكون : المتهورون ) . والتهوك مثل التهور
وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة . قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا
وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول الله (ص) (
مجمع الزوائد للهيثمي ج1 ص 173)
لقد وصل التأثر بالفكر
التوراتي الى حفصة ابنة عمر من تأثير أبيها ,فيروي الزهري :
(أن حفصة بنت عمر جاءت إلى النبي ص بكتاب من قصص يوسف في كتف
فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم
فاتبعتموه وتركتموني لضللتم) (النص عن
تدوين القرآن للعلامة الكوراني
ونقله عن مصنف عبد الرزاق الصنعاني ج6 ص 136)
لقد
كان عمر عالما بالتوراة رغما عن أوامر النبي ,ففي أيام خلافته يأتيه رجل من عبد
قيس فيعنفه عمر ويضربه ويقول له أن هذه العقوبة والتعنيف لانك كتبت سفر كتاب
دانيال , ثم يأمره بمحي ما كتب ويقول له : (إنطلق فامحه بالحميم والصوف ثم لا
تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس . فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحداً من
الناس لأنهكنك عقوبة)(كتاب الدر المنثور للسيوطي ج4 ص 3).
ونقول ان
تسدي عمر لكرسي الخلافة جعله يقاطع نشر التوراة وتعليمها وفقا لأوامر النبي
, وهو موقف يهلل له المدافعون عن عمر ليقولوا أن عمرا يتسنن بسنة النبي الكريم ,
لكن فاتهم أن الذي صار خليفة على أمبراطورية واسعة كدولة المسلمين آنذاك لابد أن
يظهر نفسه بمظهر المطبق لسنة النبي محمد (ص) أمام الناس, فليس عجيبا أن يظهر عمر
نفسه بمظهر الحريص على تعاليم النبي وان كان عمر قد غير وبدل كثيرا من تلك
التعاليم كما تقدم في سيرته.ان عقوبته للرجل الذي كتب سفر دانيال كان إظهارا لعدم
تعلقه ( تعلق عمر) بالتوراة واليهود. فالذي يقرب كعب الاحبار وتميم الداري ويفتح
لهما بابا للوعظ والارشاد وقص القصص في منبر مسجد النبي ويمنع ذلك على غيرهم ,لابد
أن كان يخطط لنشر أفكار اليهود وأهل الكتاب بين المسلمين . وقد تحقق ذلك فازدحمت
كتب التاريخ والحديث بروايات كعب وهو ما أطلق عليه المفسرون وكتبة التاريخ
بالاسرائيليات , وفضل نشر تلك الاسرائيليات يعود الى عمر !
اليهود يخلعون لقب الفاروق على عمر
يروي ابن عباس أنه سأل عمرا عن سبب حصوله على لقب الفاروق,
فيجيب عمر في رواية طويلة ويذكر قصة أسلامه التي ذكرنا شيئا منها عندما ذهب لبيت
أخته, ثم يكمل في ذات الرواية ويقول أن إسلامه كان السبب في اعلان دعوة الدين
واخراج المسلمين من السرية والتخفي الى العلن( راجع تهافت هذه الدعوة وتسلسل عمر
في الاسلام في فصل الخليفة الثاني عمر) ,وبذلك الاعلان أستحق لقب الفاروق ! ويروي
كذلك أنه أقنع النبي (ص) ليغير مسيرة
تنظيم الدعوة من دعوة سرية الى علنية ,
حيث يقول :
( فقلنا ففيم الإختفاء, والذي بعثك بالحق لتخرجن, فأخرجناه في صفين
حمزة في أحدهما وإنا في الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد, قال فنظرت
إلي قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فسماني رسول الله يومئذ الفاروق وفرق بين الحق والباطل)( تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر ج 44 ص 30 ) . ماهي القوة الخارقة التي أضافها عمر الى
المسلمين بإسلامه ؟ وقد مرت سيرته في حروب
المسلمين والتي أجمع المؤرخون بأختلاف مذاهبهم
على أن حصيلة ماقام به عمر في كل حروب المسلمين هو قتله لرجل واحد فقط!
وقتله لذلك الرجل كان بالمشاركة مع مسلم آخر. فكيف صار عمر المفرق بين الحق
والباطل؟ أين كان عمر عندما حاصرت قريش بني هاشم في شعب من شعب مكة؟ ذلك الحصار
الذي مات فيه ناصر النبي عمه أبوطالب ووكذلك ماتت زوجته السيدة خديجة. إن لقب
الفاروق الطنان الذي التصق بإسم عمر لانجد له معنى في سيرة الرجل, الا اذا كان قول
النبي (ص) باطلا, وحاشى النبي الكريم عن ذلك.
إن لقب الفاروق لم يكن الا خلعة خلعها اليهود على عمر ردا لجميله معهم.
يقول جمع من المؤرخين أن اليهود هم الذين اطلقوا على عمر لقب الفاروق وصاروا
يسمونه بعمر الفاروق !
روى
الطبري عن حقيقة لقب الفاروق فذكر آراء المسلمين في حصول عمر على لقب الفاروق
: (عن صالح بن
كيسان قال قال ابن شهاب بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق وكان
المسلمون يأثرون ذلك من قولهم ولم يبلغنا أن رسول الله ذكر من ذلك شيئا)( تاريخ الطبري ج2 ص562). وقد
ورد مثل ذلك تماما في كتاب الطبقات الكبرى
للمؤرخ ابن سعد في ج3 ص 271. وكذلك ذكر المؤرخ ابن عساكر في كتابه تاريخ مدينة
دمشق عين النص في الصفحة 51 من الجزء 44 من الكتاب.. روى ابن الاثير في عمر : (وسماه النبي
(ص) الفاروق ,وقيل: بل سماه أهل الكتاب)( الكامل لابن الاثير , باب نسب عمر
وصفته). تامل استدراك ابن الاثير لما ذكر فهو يذكر ماهو شائع عند الناس وهو تسمية
النبي لعمر بالفاروق ثم يقول أنه أهل الكتاب سموه كذلك. ( راجع فصل الامام علي,
باب سرقة الالقاب).
تهجير اليهود في عهد عمر الى فلسطين
على مر التاريخ كان دأب اليهود وديدنهم هو العودة الى بيت المقدس
وفلسطين, ولازال هذا الامر قائما الى يومنا هذا , وقد تقدم ذكر ذلك في بداية الفصل. حقق الخليفة الثاني عمر بن
الخطاب هذا الحلم ليهود الحجاز فهجرهم الى فلسطين . إن النبي نفسه لم يفعل ذلك
وكذلك الخليفة الاول, لكن عمر وربما بتأثير من كعب الاحبار اليهودي حقق حلم اليهود
بالهجرة. إن تحقيق الحلم اليهودي ذلك من
قبل عمر موضوع يدعو للتأمل لمن لايعرف الثقافة التوراتية التي كان يحملها عمر
,ولمن لايعرف الرابطة القوية بين اليهود وبين عمر . أما الذي أدرك كنه العلاقة العميقة
بين عمر وبين حبر اليهود كعب فسيدرك أن ذلك أمر متوقع. إن تهجير اليهود الى فلسطين
في عهد عمر أحتاج الى مقدمة شرعية ونص لتنفيذ تلك العملية, وكان ذلك النص الشرعي
حديثا أدعى عمر بأنه سمعه من النبي
نفسه ! يقول النبي في حديثه الذي يرويه عمر
:
(لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب . حتى
لا أدع إلا مسلما)( راجع صحيح مسلم , سنن ابي داود, سنن الترمذي) وقد ذُكر الحديث
بلفظ آخر وبأختلاف يسير أحمد بن حنبل في مسنده كما يلي: قال النبي (ص) (لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة
العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلما).أو كما رواه الترمذي في صحيحه (لئن عشت إن شاء
الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب). الحصيلة هي أخراج أهل الكتاب من
جزيرة العرب كما شرع النبي وفقا للحديث
هذا, لكن المجلب للأنتباه أن الرجل الذي نقل هذا الحديث عن النبي ورواه
للناس هو رجل واحد في كل كتب الحديث! إنه عمر بن الخطاب ,فهو الرواي الوحيد لهذا
الحديث وأنفرد به عن غيره من المسلمين,
ماعدا حديث يرويه أبوعبيدة الجراح ويقول فيه أن آخر ماتكلم به النبي قبل وفاته مايلي : ( أخرجوا يهودَ أهل
الحجاز ، وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد ) (مسند أحمد ج 3 ص 221, وذكره ابن عبد البر في التمهيد ج1 ص 169 .
وكذلك حققه الالباني في السلسلة الصحيحة.)
ونقول أما قول أبوعبيدة أن الحديث هو آخر ماتكلم به النبي ففيه نظر, لأن
النبي توفي ولم يكن ابوعبيدة حاضراً في وفاة النبي, بل كان من الذين طردهم النبي
قبيل وفاته عندما قال لهم ( تبا لكم قوموا عني) ..(راجع قصة السقيفة) , وقد ذكر البخاري قصة الطرد وسماها رزية يوم
الخميس في كتابه صحيح البخاري إذن قول أبوعبيدة لم يكن ألا تقولا على النبي
لأسناد احاديث صاحبه عمر بن الخطاب التي رواها في حق أخراج أهل الكتاب من جزيرة
العرب, وكأن عمر وصاحبه أبوعبيدة دبرا أمر أجلاء أهل الكتاب من جزيرة العرب.
وذكر أبوهريرة كذلك حديثا يشبه حديث عمر
يقول فيه:
(بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله
فقال : (انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي فنادى : يا
معشر يهود : أسلموا تسلموا، فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم . فقال : ذلك أريد، ثم
قالها الثانية، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قالها في الثالثة فقال :
اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه
وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله)( النص عن
صحيح البخاري, وصحيح مسلم) . سؤال يطرح نفسه الان : إذا كان النبي
يريد أجلاء اليهود عن ديارهم , فما الذي منعه من تهجيرهم ذلك اليوم؟ أوفي
اليوم الذي يليه أوفي سنة بعدها؟ كل ما كان
يقوله النبي ينفذه المسلمون والدولة قوية فلماذا التأخير؟ ولماذا لم يقم
الخليفة الاول أبو بكر بذلك في عهد حكمه تنفيذا لأمر النبي؟ ولماذا أنتظر عمر بن الخطاب مدة من زمن في حكمه
ثم فجأة يعتدي يهود خيبر على ابنه عبد
الله ويفدعوا يديه وهو نائم فيغضب عمر
ويجلي اليهود بعد حادثة الاعتداء تلك ,وسيأتي ذكر حادثة الاعتداء . القضية
تبدو للمدقق أنها مدبرة فأحاديث النبي في أجلاء اليهود رواها عمر لوحده, ثم عزز
تلك الاحاديث صاحبه أبوعبيدة عندما أدعى
ان النبي أوصى قبل موته بأجلاء اليهود, وكأن إجلاء اليهود أهم من أمر الخلافة
والأمامة وقيادة الامة فمات النبي بلا وصية سوى من هم واحد ألمَّ به وأرق ليله وهو تهجير اليهود,
فياللعجب! ثم يأتي أبوهريرة بحديثه الذي لم ينفذه النبي (ص) نفسه ولم يعمل به
وكذلك الامر كان زمن خلافة الاول وشيئا من خلافة الثاني عمر.
الاحاديث النبوية أعلاه كانت مقدمة شرعية
لخطة في قلب عمر لأجلاء اليهود وتسفيرهم الى أريحا في فلسطين , ثم حصلت واقعتين
سمع بها الناس في خلافة عمر جعلت عمر يقوم خطيبا على الناس ويأمر بطرد اليهود ,
لنقرأ النصوص :
(عن يحيى بن سهل بن أبي حثمة
قال : أقبل مظهر بن رافع الحارثي إلى أبي بأعلاج ( عمال أجانب)من الشام عشرة
ليعملوا في أرضه فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثاً فدخلت يهود للأعلاج وحرضوهم على
قتل مظهر ودسوا لهم سكينين أو ثلاثاً فلما خرجوا من خيبر، وكانوا بثبار وثبوا عليه
فبعجوا بطنه فقتلوه ثم انصرفوا إلى خيبر فزودتهم يهود وقوتهم حتى لحقوا بالشام ،
وجاء عمر بن الخطاب الخبر بذلك فقال : إنى خارج إلى خيبر فقاسم ما كان بها من
الأموال ، وحاد حدودها ومورف أرفها ومجل يهود عنها ، فإن رسول الله ص قال لهم
أقركم ما أقركم الله ، وقد أذن الله في إجلائهم ففعل ذلك بهم) ( النص عن تدوين القران للعلامة الكوراني
ص 527 , ونقله عن طبقات ابن سعد , كنز
العمال ج 4 ص 509)
إن الاجلاء لم يتم الا بعد الاعتداء على ابن عمر كما في الرواية
الاتية:
( قال ابن اسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبدالله بن عمر ، عن
عبدالله بن عمر ، قال : خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر
نتعاهدها ، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا ، قال : فعدي عليَّ تحت الليل ، وأنا
نائم على فراشي ، ففدعت يداي من مرفقي ، فلما أصبحت استصرخ عليَّ صاحباي فأتياني
فسألاني من صنع هذا بك ؟ قلت : لا أدري ، قال : فأصلحا من يدي ، ثم قدما بي على
عمر ، فقال: هذا عمل يهود ، ثم قام في الناس خطيباً فقال : أيها الناس إن رسول
الله كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم
إذا شئنا ، وقد عدوا على عبدالله بن عمر ، ففدعوا يديه كما قد بلغكم ، مع عدوهم
على الأنصاري قبله ، لا نشك أنهم أصحابه ، ليس لنا هناك عدو غيرهم ، فمن كان له
مال بخيبر فليلحق به ، فإني مخرج يهود ، فأخرجهم )(.
تدوين القران للكوراني ص 527, وعن السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 389)
وقال عمر في خطبة له يبين سبب تهجيره ليهود خيبر (وأن عبدالله بن عمر
خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه ، وليس لنا هناك عدو
غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ... فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً
وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك )(
تدوين القران للكوراني العاملي ص 527, وعن
صحيح مسلم ج 5 ص 27 ، وأبو داود ج 2 ص 35 وأحمد ج 1 ص 14 ، والبيهقى في
سننه ج6 ص115 و135 وج9 ص56 و137 و207 و208 و224، وابن شبة في تاريخ المدينة ج1
ص176 ـ 194 والسيوطى في الدر المنثور ج3 ص 228 ، والهندي في كنز العمال ج 4 ص 503)
وبذلك تم أجلاء اليهود في عهد عمر الى تيماء في شمال الجزيرة والى
أريحا بفلسطين كما روى البخاري في صحيحه ج
4 ص 61. وبذلك التهجير تحقق حلم كبير كان يراود اليهود منذ عهد تهجيرهم القسري على يد الرومان ,وتم لليهود
العودة الى فلسطين في عهد عمر , فهل يوحي هذا التهجير المخطط له مسبقا اليك بشئ ايها القارئ؟ أنه يبين تعاون اليهود
وأحبارهم مع عمر في سبيل تحقيق أمنية اليهود التي لم تتغير ولن تتغير منذ العهود
الغابرة وحتى يومنا هذا, ويبين كذلك دور عمر المهم والذي لن ينساه اليهود
ابدا, فكان أن خلعوا عليه لقب الفاروق كما تقدم.